كيف تموت الأمم؟


 كيفَ تموتُ الأمم؟

سؤال طرحه العديد من الكتّاب والفلاسفة على مرّ العصور بشكلٍ مباشر وغير مباشر، يبحثون فيهِ عن المعيار الذي يمكن من خلالهِ معرفة أن هذه الأمة ستبقى خالدة، وأن تلكَ الأمة مصيرها هو الزوال، واذا أردنا نحن أن نلخّص اجاباتهم فسيكون الجواب هو " تموت الأمم عندما تتوقفُ عن نقشِ ثقافتها على جدران الزمن " ولنا في اليونان القديمة مثالٌ صارخٌ على ذلكَ، فاذا سألنا أنفسنا.. كيفَ خلّد هذا الشعب نفسه إلى الأبد؟

سيكون الجواب: من خلال ثقافته التي دوّنها بكل ما فيها من خيرٍ وشرّ، فبقيَّت نابضة في وجدان العالم رغم تعاقب العصور وتقلّبات الأزمنة، وها نحن الآن بعد آلاف السنين، نجد ثقافتهم تقتحم الفنون بكلِ ما تحمله من جمالٍ وقبح، فنستفيد من معارفهم ونتعلّم من أخطائهم، فوقفت الحروب والأوبئة والمآسي عاجزة أمام هذه الثقافة التي استمرت وستبقى ما بقيَّ الانسان على هذه الأرض.

 

الثقافة كما عرّفها عالم الاجتماع إدوارد بيرنت تايلور " هي نمط من حياة جماعة، بكل ما يشتمل عليه هذا النمط من لغة وعادات وتقاليد ومعتقدات دينية ومذهبية ورؤى للعالم " اذن يمكننا القول بأن الثقافة هي الجانب غير المادي من الحضارة، وأن الحضارة تدوم بدوام ثقافتها وتزول بزوالها، فلماذا اختفت قبائل الهنود الحمر وسكّان استراليا الأصليين من التاريخ وقد كانوا أمماً عظيمة، ولم يختفي اليهود مثلاً وهم جماعة على مدار تاريخهم قد كانوا قليلي العدد والعدة؟ السرّ هو أن اليهود كتبوا.. والأمم التي تلاشت فيجمع بينها أنها لم تكتُب.

 

وقد كان للمصريين القدماء حظٌ وفير بأن استطاعوا بناء أهراماتٍ عظيمة ورائعة جعلتهم يعبرون حدود الزمن، ويفتحون أبواب الخلود، واذا لم تستطع أمّة معيّنة بناءَ هرم، فيمكنهم بناء أهرامٍ من الأعمال غير الماديّة التي تجسد ثقافتهم وتلبسها ثوب البقاء وعبور الأزمنة، واذا أردنا اسقاط هذه الأمثلة على الواقع الحالي، فسنصل إلى نتيجة أن الأمة التي تواجه صراعاً وجودياً، قادرة على تخليد نفسها، بنقل ثقافتها من خلال صناعة الأفلام والأغاني والأدب وكلِ الأدوات التي تسهّل نقل الثقافة ونقشها على جدران الزمن، حتى لو لم يكن محتوى هذا الكتاب أو هذه الأغنية يهدف بشكلٍ مباشر إلى تدوين الثقافة، فهو بشكلهِ هذا يحمل جزءً من ثقافة مبدعه، وهذا يصبُ في مصلحة شعبه، فاذا وجدنا كاتباً فلسطينياً مثلاً يكتبُ رواية دراميّة، عن بطلٍ يواجه العادات والتقاليد من أجل الوصول إلى الفتاة التي يحبها، فهذا العمل الأدبيّ مثلاً مهما كان مستواه، لم يُصنع من أجل مواجهة رواية الأعداء، وإنما هو خيال كاتبٍ فلسطيني، سيكون عمله - بغيرِ قصد - عملاً يجعل من ثقافة شعبهِ خالدة يستطيع الجميع الوصول إلى جذورها وتحسس مكامن القوة والضعف فيها، ودراسة تناقضاتها، وهكذا يصبُ هذا العمل الأدبي في مصلحة شعبٍ يواجه خطر الزوال، ويحميهِ بطريقته الخاصة من الزوال.

 ومن الضروري أن نتذكر ما فعله الكاتب الفلسطيني اميل حبيبي في روايته الشهيرة " المتشائل " التي تدور أحداثها حول سعيد أبي النحس المتشائل وهو فلسطيني من الأراضي المحتلة عام 1948 في فترة الحكم العسكري الذي فرضته اسرائيل على المواطنين الفلسطينيين، حيث قام اميل حبيبي فيها بخلق كلمة جديدة، من خلال خلط كلمتي تفاؤل وتشاؤم، ليصور حالة عرب الأراضي المحتلة عام 1948 وهي التشاؤل التي تحمل معنيي التفاؤل والتشاؤم مندمجين، فإن حصل مكروه للمتشائل فإنه يحمد الله على عدم حصول مكروه أكبر أو كما شُرِحت في هذا الاقتباس من الرواية:

"خذني أنا مثلاً، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا؟ أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: أمتشائم أنا أم متفائل".

لقد كان هذا العمل الأدبي سبباً في تخليد تلك الفترة من حياة الفلسطينيين، مما يسهّل الأمر على كل من أراد معرفة شكل حياتهم في تلكَ الأيام، ولكن الأمر لم يتوقف هنا، لأن الفنان الفلسطيني محمد بكري قام بتجسيد شخصية هذه الرواية على المسرح، مؤدياً عروض كثيرة جداً لها في جميع أنحاء العالم، ليحكي قصة الفلسطيني في تلك الفترة وليخبر الملايين عن حاله وعما جرى في تاريخه.

 

 

مما يجعل كل الأدب الذي كتبته أياديٍ فلسطينية على مدار التاريخ، هو أدبٌ مُدافع، يحمي هويّة كاتبهِ من الاندثار بتخليد ثقافته، والأدب هنا هو مجرد مثالٍ على أحد أدوات تخليد الثقافة، لأن الأمر لا يتوقف عنده، فكل الفنون تقوم بالعمل ذاته، لتصبح كلها أدوات للدفاع بشكلٍ قويٍ وحقيقي عن مصير الأمة، وهذه الأدوات ما زالت تتطور وتتزايد بمرور الزمن، ويتزايد تأثيرها، ومن أجل ازدياد وضوح الصورة، قمنا بسؤال الكاتب الفلسطيني محمود جودة عن مفهومه الخاص للثقافة والذي عبر عنها قائلًا أنها مجموعة القيم والعادات والمفاهيم والأذواق التي توافق عليها المجتمع وأصبحت تتناقل عبر الأجيال وكل مجتمع له رؤيته الخاصة بالثقافة بغض النظر عن مدى انسجامها مع المحيط، وتحدث جودة عن دور الأدب في تثبيت ثقافتنا قائلًا: " أرى أن للأدب الدور الكبير في الرواية وتعريف الأجيال بالحق المشروع وبما حدث في الماضي واستشراف المستقبل أيضاً، أما في حالتنا الفلسطينية فتصبح الثقافة والحكاية جزء أصيل من صراعنا مع المحتل الذي هو بالأساس الآن الصراع على الحكاية والهوية وأصدق ما قيل في هذا الشأن هو قول الكاتب إبراهيم نصرالله إن حكايتنا التي لا نكتبها تصبح ملكا لأعدائنا، لذلك يجب علينا الاهتمام أكثر بسرد حكايتنا كي نحافظ عليها من الإحلال والمصادرة كما احتلت الأرض يجب أن لا تحتل الحكاية"

 

ويروي جودة بأسف عن دور الاحتلال في التأثير على المثقف الفلسطيني وأخذه إلى زاوية المظلومية وأن يقصر عمله الثقافي على صد هجماته ومقاومته سواء الهجمات على التاريخ والرواية والحكاية الفلسطينية أو على الأرض الأمر الذي افقد الرواية الفلسطينية الكثير من حظوظها، بأن يتحدث المثقفين عن الأشياء والمواضيع المشتركة بينه وبين شعوب الأرض، أي ربما أن الاحتلال اخترق زمن المثقف الفلسطيني بأن جعله يعمل في زاوية واحدة بدلاً من العديد من الزوايا التي تخدم الحالة الثقافية على مستوى العالم.

 

كما أن الكاتب محمود جودة قال عبارة في منتهى الخطورة فيما يخص الأعمال الفنية الفلسطينية وهي أن " الأعمال الفنية التي وصلت للعالمية لم تنقل الثقافة الفلسطينية على قدر ما نقلت المعاناة الفلسطينية "

قد نتفق أو نختلف مع الكاتب محمود جودة في وصفه لدور الأدب الفلسطيني وطبيعته، فقد كان للكاتب أحمد عيسى آراء مختلفة بعض الشيء عن الذي قاله الكاتب محمود جودة عندما سألناه عن دور الأدب الفلسطيني في تثبيت الثقافة وأهمية هذا الدور على أرض الواقع فكان رؤيته عن أهمية الكتابة للفلسطيني أنها  احتياج وفي حالتنا كفلسطينيين هيَّ ضرورة، لأننا نكتب لنوثّق.. ولننزف هذا الوجع قبل أن يقتلنا من الداخ، واردف عيسى: لدينا ملايين الحكايات التي علينا أن نحكيها، لأن هذا واجب وطني وواجب انساني وضرورة، وعلينا أن نعمل على أنسنة الأشياء، والتركيز على الخاص، والتركيز على المعاناة الخاصة بكل طفل وكل انسان، فمثلاً رقم 1500 شهيد هو رقم لا يثير العالم ولا يؤثر في الوجدان العالمي كما تؤثر فيه قصة طفلة فقدت قطتها، هذا هو الواقع، ولذا علينا أن نتحدث بلغة يفهمها العالم.

ويرى الكاتب أن هناك العديد من الأعمال التي ساهمت في نقل ثقافتنا وتثبيتها وأن أدباء فلسطين قد وصلوا بأعمالهم للعالمية، فنقلوا تراثنا وثقافتنا وأهازيجنا الشعبية للعالم بأسره، الكوفيّة مثلاً هيّ رمز من رموز الثقافة ومفتاح العودة هو رمز أيضاً، غسان كنفاني بحد ذاته رمز، وجملته الشهيرة " لماذا لم يطرقوا جدران الخزان " هيَّ رمز، ورائعة تميم البرغوثي قصيدة " في القدس " التي رسم فيها فيلماً قصيراً مدته خمس دقائق وحمّله هذه المرة بالكلمات لا بالصورة، فيلماً يرسم شوارع وحارات وأبواب القدس ويصوّر تضاريسها وتاريخها.

ويكمل عن روائع محمود درويش مثل " سجّل أنا عربي " في تاريخها وعنفوانها وحزنها ودموعها، ويرى أنه لا يمكننا أن نختصر هذا الكلام في هذه الأعمال فقط، لأن الأعمال التي تنشر ثقافتنا وتتلقّفها دور النشر العالمية كثيرة جداً

 

ويعبر أحمد عن مفهومه الخاص للثقافة قائلًا: " إنني أرى أن الكون هو عبارة عن جزيئات بالغة الصغر تشكّل كل شيء، الانسان والحيوان والمباني والحضارات والأحداث، هذه العناصر وحدها ليس لها أي قيمة ، ولكن الثقافة هي التي تجعل من هذه العناصر تتحد لتصنع التغيير اللازم حتى يسير التاريخ سيره الطبيعي، لتتكون الحضارات ويتشكل وعي الشعوب، ويصبح للانسان قيمة، والسببُ هو الثقافة، وبدونها لن تمتزج هذه العناصر ولن يصبح لها قيمة ولن تتحد، وسيفقد الانسان قدرته على الابداع، فالحجارة وحدها لن تصنع منزلاً.

 

وككل أديب وكاتب فلسطيني تحضر فلسطين في أوراقه أحمد عيسى يرى إن الشارع الفلسطيني رغماً عنه حاضرٌ في كل كتاباته، على الرغم من أنه يهوى التنويع والتجريب في المواضيع والتقنيات، إلا أن الشارع الفلسطيني والجو العام للحصار والحروب، يبقى كما هو مهما تنوعت المواضيع، يقول عيسى في هذا الخصوص: " في روايتي مثلاً " شيطان تسكنه أنثى " صورت شوارع وأزقّة الحارات والمخيمات وهيَّ رواية اجتماعية، ولكنني في رواية "الجعسوس" التي دارت أحداثها في شوارع غزة ووصفت في بعض أحداثها الحروب والحصار، ولعل الغريب في الأمر أنني كنتُ أكتبها كرواية خيال علمي ولكن الجو العام للحصار والحروب والنزاع فرض نفسه عليها، حتى عند التناول الرمزي كما في قصة " بطولة على الطريق " و" النمور في اليوم الحادي عشر " تبقى القضية راسخة، والمعنى دائماً يقود لذات الهدف.. فلسطين."

ولعل هذه الكلمات وهذه الأمثلة التاريخية، هيَّ دليل واضح على أن قوة تثبيت الثقافة وحمايتها، هيَّ قوة حقيقية لم تّكتسب من خلال العبارات المنمقة، وإنما هيَّ واقع له وزن وتأثير حقيقي في الأحداث، وعلينا أن نتأكد أن هذا التأثير هو كبير جداً، مما يجعل الأمة التي تعرف قيمة الكتابة والفنون جميعها، أمة قويّة عصيّة على الزوال، وهذه هيَّ الطريقة الوحيدة كي لا تموت الأمم.

إرسال تعليق

0 تعليقات
* Please Don't Spam Here. All the Comments are Reviewed by Admin.

buttons=(Accept !) days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !